الطب والذكاء الصناعي ... إلى أين ؟

لم يعد هناك من البشر أحد لم يسمع عن الذكاء الصناعي، حيث أنه أصبح اليوم من أهم المواضيع المطروحة للنقاش والجدل نظرًا للقفزة العلمية الغير مسبوقة في العشرين سنة الأخيرة. سنتحدث هنا عن الطب وعلاقته بالذكاء الصناعي وماذا ينتظرنا في المستقبل بهذا الصدد، لكن قبل أن نبدأ، دعونا أولًا نعرف ما هو الذكاء الصناعي.

اختلف العملاء في التعريف الدقيق للذكاء الصناعي، فمنهم من عرّفه بأنه القدرة على إحداث تغييرٍ بالبيئة المحيطة،  ومنهم من قال بأنه القدرة على محاكاة الذكاء البشري، وآخرون قالوا بأنه سلوكٌ وخصائص معيّنةٌ تجعل الحاسوب قادرًا على محاكاة القدرة الذهنية واتخاذ إجراءاتٍ للوصول إلى هدفٍ معيّنٍ.

ما هي أنواع الذكاء الصناعيّ؟

بناءً على التعريفات السابقة، يمكننا أن نقسّم الذكاء الصناعيّ إلى أربعة أنواع، أوّلها ذكاء "الآلات التفاعليّة" والذي يقوم بمحاكاة ردود الفعل البشريّة كالحركة والإمساك بالأشياء وقيادة الدرّاجات والسيّارات، والنوع الثاني هو ذكاء "الذاكرة المحدودة" الذي لديه قدرةٌ محدودةٌ على تخزين واسترجاع معلوماتٍ معيّنةٍ مثل روبوت الدردشة والمساعد الافتراضي في الهواتف الذكيّة، والنوع الثالث هو "نظريّة العقل" الذي يظهر من اسمه على أنّه محاكاةٌ أكثر قربًا للعقل البشريّ من حيث قدرته على تفسير بعض سلوكيّات البشر وحالاتهم النفسيّة والمزاجيّة واستخدام تلك التفسيرات في فهم الأشخاص والتنبؤ بما قد يفعلونه في المستقبل. أما النوع الرابع فهو ذكاء "الوعي الذاتيّ"، وهو أكثر أنواع الذكاء الصناعيّ إثارةً للجدل، ففيه يحاول العلماء إنتاج آلةٍ لديها قدرةٌ ذاتيّةٌ على التعلّم والتقييم الذاتيّ والاستفادة من الخبرات السابقة لها وتحليل المعلومات بشكلٍ دائمٍ واستحداث استنتاجاتٍ ذاتيّةٍ وبناء نتائج مترتبةٍ على تلك الاستنتاجات، وهذا النوع بالذات من التطبيقات هو ما أثار حفيظة البعض وزرع بهم التخوّف من احتماليّة اتّخاذ تلك الآلات قرارتٍ ليست في صالح البشر يومًا ما.

الآلة والشعور الإنسانيّ

بالرغم من التطوّر السريع في مجالاتٍ عدّةٍ نتيجة التطبيقات المتنوّعة للذكاء الصناعيّ إلا أنّه هناك تحفّظٌ وشيءٌ من انعدام الثقة بين المريض والذكاء الصناعيّ من حيث التشخيص والتعرّف على الحالات المرضيّة مبكّرًا، وذلك شيءٌ طبيعيٌّ يرجع إلى أسبابٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ مرتبطةٍ بالتعلّق الذهنيّ للمريض بالصورة النمطيّة التي يجب أن يكون عليها الطبيب من حيث التعاطف وإبداء الاهتمام والتركيز، فلا أحد يمكنه أن ينكر التأثير النفسيّ للطبيب على مريضه ومدى تأثّر المريض بالذكاء الاجتماعيّ لطبيبه المعالج الذي يمكنه أن يرفع من حالته المعنويّة ويساعده على الشفاء ببعض الكلمات التحفيزيةّ، وأحياناً تكون ثقة المريض بطبيبه إحدى الأسباب الرئيسيّة لنجاح العلاج، لذا نجد أنه ما زال هناك الكثير من الوقت حتى يمكن للمرضى أن ينظروا إلى الذكاء الصناعيّ العلاجيّ تلك النظرة التي ينظرونها للطبيب.

التطبيقات الطبّيّة للذكاء الصناعيّ

الموقف النفسيّ للمريض من الذكاء الصناعيّ لم يوقف عمليّات التطوير المستمرّة في مجال التشخيص الطبيّ المعتمد على الذكاء الصناعيّ، فهناك الكثير من التطبيقات العلميّة المستخدمة في تشخيص أمراضٍ بسيطةٍ مثل تسوّس الأسنان و التعرّف على حصوات الكلى، وهناك أيضًا برامج أكثر تعقيدًا يمكنها تشخيص أمراضٍ مزمنةٍ كسرطان البروستاتا وغيره بنسبة دقّةٍ تصل إلى 96% والتي تعتمد بشكلٍ رئيسيٍّ على تقنيّة الذكاء الصناعيّ، لذا فهناك مؤشراتٌ قويّةٌ تجعل من الذكاء الصناعيّ عنصرًا مهمًّا في المجال الطبّيّ في المستقبل خاصّةً في مجال تحليل صور الأشعّة وقراءة التحليلات المعمليّة وجمع البيانات الطبّيّة وتحليلها.

كيف ينظر الطبيب إلى الذكاء الصناعيّ؟

إذا نظرنا إلى الأطبّاء فسنجد أن هناك شريحةً كبيرةً متخوّفةً من مدى قدرة الذكاء الصناعيّ على التشخيص ومدى اعتماديّة الأطبّاء عليها بهذا الخصوص، فمازالت الأبحاث المبنيّة على الذكاء الصناعيّ في طورها الأوّلي ولم تنضج بالشكل الذي يمكنهم فيها أن يعتمدوا على قراراتٍ مهمّةٍ دون مراجعةٍ، لكن دون شكٍّ استفاد أطبّاءٌ آخرون من سرعة  تلك الآلات في عمليّة الفصل بين الحالات المستعجلة والحالات البسيطة خاصّةً في الأماكن التي تعاني من قلّةٍ في عدد الأطبّاء والتي تتطلّب من الطبيب أن يقطع مسافةً كبيرةً للوصول للمريض، كما أنّهم استفادوا من قدرة الذكاء الصناعيّ وسرعته في قراءة و تشخيص الحالات الغير حرجةٍ والتأكّد بأنفسهم من دقّة التشخيص الصناعيّ ومراجعة الحالات لزيادة التأكيد.

العلاج والعمليّات الجراحيّة

بعد أن أخذنا نظرةً عن الذكاء الصناعيّ في التشخيص الطبّيّ، دعونا نرى ماذا بعد التشخيص. قامت العديد من شركات الأجهزة الطبّيّة بإعطاء أولويّةٍ كبيرةٍ لإنتاج وتصنيع روبوتاتٍ جراحيّةٍ متطوّرةٍ لديها القدرة على التدخّل بشكلٍ جزئيٍّ أو كلّيٍّ في العمليّات الجراحيّة، منها مايتمّ التحكّم به عن طريق طبيبٍ فيقوم بإجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ في دولةٍ أخرى عن طريق التحكّم عن بعدٍ في أذرعٍ إلكترونيّةٍ تحلّ محلّ أيدي الطبيب، وهناك اليوم أيضًا روبوت يقوم بزراعة الأسنان الصناعيّة بشكلٍ كاملٍ دون تدخّل أيّ طبيبٍ. نختلف أو نتّفق بخصوص مدى جهوزيّة تلك الآلات لكنّها خطوةٌ كبيرةٌ يمكنها أن تصل بنا يومًا ما إلى إنتاج روبوت جرّاحٍ مجهزٍ كليًّا للقيام بعمليّاتٍ جراحيّةٍ معقّدةٍ وبدقّةٍ تكاد تكون مستحيلةً.

هناك العديد من المهامّ الطبّيّة الأخرى التي تكون فيها الآلات أكثر دقّةً من البشر إذا تمّ تدريبها بشكلٍ صحيحٍ وأخذت المعلومات الكافية التي تجعلها قادرةً على إتمام تلك المهامّ بدقّةٍ شديدةٍ منها إدخال البيانات الطبّيّة ومراجعة الملفّات السابقة للمرضى والتواصل بين المؤسّسات الطبّيّة وجمع الموافقات الطبّيّة ودفع المرتّبات بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ والعديد من المهامّ الأخرى، كما أنّ ظهور الذكاء الصناعيّ بحدّ ذاته قد أنتج فرصًا جديدةً للعمل في معظم المجالات وأظهر مدى أهميّة جمع وتحليل المعلومات على نطاقٍ واسعٍ واستقراء المستقبل بشكلٍ أكثر دقّةً بسبب قدرة تلك الآلات على تحليل ملايين المعلومات في دقائق معدودةٍ.

مستقبل الذكاء الصناعيّ

لا أحد يعلم ماذا يخبّئ لنا المستقبل لكنّه بالتأكيد يشير إلى احتماليّة الأتمتة الكاملة في بعض المجالات الطبّيّة خصوصًا تلك المجالات التي يقوم بها الشخص بأعمالٍ متكرّرةٍ كثيرةٍ بشكلٍ يوميٍّ، لكنّه من الجانب الآخر سيفتح فرص عملٍ جديدةً لم تكن متوفّرةً من قبل، كما أنّه سيساعد في وصول الخدمات الطبّيّة والعلاج إلى أماكن كان من الصعب الوصول إليها من قبل. سيشعر البعض بالتهديد، وآخرون سيشعرون بالتفاؤل، لكن من المؤكّد أن الذكاء الصناعيّ سيظلّ محطّ اهتمام الملايين من البشر في السنوات القادمة.